أزمَة المَعنى: فقدان الغاية وتفاهة الوجود

BY: Administrator

يَجتاحُنا شعور نسبيّ بالفراغ، مُرتبط بنُيويًا بطبيعة العالَم العَلمانيّ الذي نعيشه

– لوك فيريّ، الإنسان المُؤلّه


في الكتاب التيبتيّ حول الحياة والموت، يروي رينبوشي قصّة كريشا كوتامي، وهي امرأة شابّة كانت تعيش زمن بوذا، حين قضى الموت على رضيعها الذي لم يتجاوز السنة عبر مرضٍ مُفاجئ وصاعق. لقد كان حدثًا مُوجعًا، فضمّت جُثّة رضيعها إلى صدرها وأخذت تجوب وتنحب في الشوارع مسحوقةً بالحُزن، مُتوسّلة بكُلّ مَن تلقاهم في الشارع، أن يُعيد رضيعها إلى قيد الحياة. فتجاهلها بعضُهم، ونعتها آخرون بالجنون، ثُمّ نصحها رجل حكيم بأن تذهب إلى بوذا. فذهبت إليه، ووضعت الجسد الصغير الهامد أمامه وحكت له مأساتها. فاستمع بوذا الحكيم بكلّ رأفة وشفقة وقال لها: ليس هُناك إلّا دواء واحد للداء الذي يُرهقكِ: انزلي إلى المَدينة وعودي إلّي بحبّة خردل، تكون من بيت لَم يعرِف أبدًا أيّ مَيّت !

وبالإمكان تصوّر بقيّة القصّة وعبرتها، لقد طرقت كريشّا كلّ البيوت، لكن من أين ستأتي بحبّة خردل من منزلٍ لم يعرف أبدًا أيّ ميّت، فلكُلِّ البيوت أمواتها ولا أحد يُفلِت من ذلك.

فأينَ الخلَاص، ولماذا نُوجَد من الأساس، إذا كُنّا محكومين بالمَوت؟ هذا هو  المُنطَلَق الأساسيّ للإشكال الذي يطرحه الفيلسوف الفرنسيّ لوك فيري، ومن هُنا يُؤسّس مشروعه، إنّه يتحدّث أوّلًا، عن أزمة محدوديتنا وفنائنا، وثانيًا عن أزمة معنى وجودنا، وثالثًا عن الفراغ الذي خَلَقه غياب الدينيّ، ورابعًا عن الخَلَاص من كُلِّ هذا، مُقتَرِحًا مشروعه عن الإنسانوية الجديدة، عبر التعالي المُحايِث، حيث المَخرَج والمَعبَر من أزمة الوجود.

إنّ كلمة الخَلَاص (وهي كلمة تنتمي إلى المَعجَم الدينيّ في أصلها) تُوحي بالضرورة بوجود أزمة، إذ الخَلاص: إنقاذ ونَجاة، ودرء لخطر وخروجٌ من مُصيبة، فعن أيّ مصيبة نتحدّث؟ وأيّ أزمة تلك التي تفرض علينا أن نبحث عن سُبُل الخَلاص منها؟ إنّها أزمة وجودنا التي يُؤجّجها الموت، إنّه يستهدفنا بإفناء مَن حولنا، ويستهدفنا بسرقةِ من أحببنا، ويستهدفنا بتهددينا وبالاقتراب مِنّا، أنّه يَحُفُّنا فنهتزّ، ويختطفهم فنرتعش،  لقد خُطّ الموتُ على ولدِ آدم، مَخطّ القِلادة على جِيد الفتاة، يقول الحُسين -سِبط الرسول الكريم- وهكذا نُجاور المَوتَ ويُجاورنا، يُطاردنا ويُلاحقنا.. حتى مَقدِم تلكَ اللحظة التي لا مفرّ منها، حين سنقف أمامه وجهًا إلى وَجه فينتزعَ وجودَنا أو ينتزعنا من الوجود.

لكن لماذا صار المَوت أزمة الإنسان المُعاصِر؟ وهو الذي لم يفارق الوجود منذ بدايته، فالمَوت ليس حَدَثًا طارئًا على وجودنا البشريّ، فلماذا نفترض أنّ أزمةً ما حلّت علينا، ما كان يُعانيها أسلافُنا من قبل؟ فنحنُ بقولنا أنّ الموتَ يُشكّلُ أزمةً للإنسان المُعاصِر، نُصادِر ونفترض أنّ مَن سبقنا من بشر ما كان يستشعر قلق الموَت.  لسبب مبدئيّ، كانت أسئلة الموت والوجود حاضرةً لدى الإنسان قبل عصرنا، لكن في عالَم تقليديّ، كان يُجاب عنها بطريقة أكثر بديهية، كان الإنسان يفهم موقعه من الحياة، وبالتالي يعرف مكانه من المَوت. لكن في عصر علمانيّ تفقد الإجابات الدينية البَدهية جاذبيتها، لدرجة قد تبدو سخيفة للبعض. وتِبعًا لعدد من العوامل والتحوّلات الاجتماعية والسيرورات التاريخية، سنأتي على ذكرها، يتعاظم التأزّم تجاه مسائل الوجود، مسائل المعنى والموت والمصير.

يغيب الدين وتغيب معه إجاباته، وبتراجع الإيمان ينحسِر الأمل. إذ وفقًا للتقسيم الكانطيّ:

العقل هو الجواب على سؤال: ماذا يُمكنني أن أعرف؟

والأخلاق هي الجواب على سؤال: ماذا يجب أن أعمل؟

أمّا الدين فهو الجواب على سؤال: ماذا يُمكنني أن آمُل؟

أيّ أمل يتبقّى لنا نحنُ الذين سنَفنَى، بدون وعود مضمونة؟ أيّ خَلَاص تَعدُنا به الأديان أغلى وأعزّ من تأكيدها بأنّنا سنلقَى يومًا ما، مَن فقدنا من الأهل والأصدقاء والأُخوة والأخوات  والأزواج والزوجات، والأبناء والأحفاد. لقد تعرّض النبي الكريم لتجربة الفقد، حينما فقد ابنه إبراهيم، فبكى كما بكى أي إنسان على وجه الأرض، لأنّه اختبر ببساطة وببشريّته الطاهرة تجربة الفقد وشعر بحالة التمزّق التي يُسبّبها الفراق. لقد كان الدين يردم ثغرًا كبيرًا من الثغور البشرية، عَبرَ الأمل، فالإيمان في جوهره أمل بغيبيّ، أن تُصدّق، أن تُسلِّم، أن تصبر، وعَبر هذا وغيره كان الدين يَعقدُ صُلحًا بين البشرية والوجود، وبين الإنسان وقصوره الذاتيّ.

 

إنّنا نجدُ أنفُسَنا في مُواجهة قاسية وحادّة مع مسألة المَعنى، أو بالأحرى، مع أفول المَعنى، في عالَم مُعلمَن إلى أقصى حدود

– لوك فيري، الإنسان المُؤلّه


فُقدان المَعنى

في المُناظرة الممتازة التي أذاعتها إذاعة الـ BBC بين القِس كوبليستون وبرتراند راسِل سنة 1948. سُئِلَ راسِل عمّا إذا كان يوافق سارتر القول بأنّ “الحياة بلا مُبرِّر” فأجاب: لا أقول هذا، فلهذا دلالات أخرى، أنا كلّ ما أقوله أنّ الكون وُجِد وفقط !

أمّا ريتشارد دوكنز ففي إحدى مُحاضراته المُتاحة على اليوتيوب وأذكر أنّها كانت في أستراليا، فقد وقف أحد الحاضرين وسأل دوكنز: كلّ ما تقوله جميل، ولكن يظلّ عندي سؤال كمُلحِد: ما هي الغاية من وجودي إذًا؟ فأجابه دوكنز إجابة دبلوماسية، مفادها: أنّ علينا أن لا نعبأ بهذا النوع من الأسئلة (وهو سؤال طبيعي ووجداني لأي كائن بشريّ) وأنّ مِثل هذه الأسئلة لا قيمة لها ولا فائدة من إجابتها.

يتعاظم سؤال الجُدوى في ظلّ مناخ معيشيّ يغلب عليه التفكير المادي والاقتصاديّ، إذ أنّ قيمة الأشياء وقيمة الأفعال تتحدّد بمقدار ما تعود على فاعلها أو صاحبها بمردود حقيقيّ وملموس. ويخترق هذا المَناخ أنماط التفكير على مُستوى الذات والقِيَم، فما هي جدوى وجودنا نحن البشر؟ نحن الذين نفنى ونموت بالآلاف بقُنبلة واحدة! ما قيمة أن نبني منازلنا وأن نُؤسّس شركاتنا وأن نُكوِّن عائلاتنا إذا كانت مُعرّضة للزوال بلمح البصر، فقط نتيجة خلاف لفظي بين رؤساء دُوَل؟ ما قيمة الكَرَم مثلًا؟ ما قيمة أن تُعطِي بلا مُقابل؟ أليس الخُسران هو النتيجة الحتمية لأيّ عطاء ماديّ لا يُقابله مردود بقيمة ما أنفقنا أو أكثر!

 إنّنا نجدُ أنفُسَنا في مواجهة قاسية وحادّة مع مسألة المَعنى، أو بالأحرى، مع أفول المَعنى، في عالَم مُعلمَن إلى أقصى حدود. وُيُعبِّر لوك فيري عن هذا بقوله: فإذا لَم تَعُد هُناك الديانات الكُبرى تُلائم أزمنتنا العَلمانية والديمقراطية، أو تفقد فيها فاعليتها، فالمُعضلة تكمن، في أنّنا (كفلاسفة ومُلحدين) لم نخترع أي شيء يُمكن أن يقوم مَقامها بشكل مقبول.

كيف الرِضى في عالَم صار فيه الفَرد أخيرًا ذاته المُستقلّة؟ هكذا يتلاشى بمُساعدة صعود الفردانية، الشعور الذي بحسبه يُمكن لمعنى الحياة أن يتأسّس. فهل يُمكِن لأخلاقياتنا الخالية مِن كُلّ تعالٍ أن تُعوِّض هذا الاختفاء الإلهيّ؟ نحن أمام عالَم يستنفذ فيه أُفق المُستقبل حقل الدلالات والقِيَم، لقد أضحى الوجود مُغطىً باللامعنى، وخيّم فراغ معنويّ عام على الذات البشرية، فكيف السبيل لإجراء جراحة تجميلية للوجود من جديد؟

من المُؤكّد أنّ هُناك شعور نسبيّ بالفراغ، مُرتبط بنُيويًا بطبيعة العالَم العَلمانيّ الذي نعيشه. وأقول نسبيّ لأنّني واعٍ بطبعه المتذبذب والعابر، فنحن بإمكاننا أن نعيش في مجتمعاتنا الحديثة دون أن نطرح على أنفسنا التساؤلات والمُشكلات الجوهرية فترة طويلة من الزمن.

لقد نشأ عالمُنا العَلمانيّ والديمقراطيّ اليوم، على أسس قطيعة أساسية مع الدين، موت الإله بتعبير نيتشه، نزع السحر عن العالَم بتعبير فيبر، نهاية اللاهوتيّ-السياسيّ بتعبير كارل شميت. دَنيوة وعَلمَنة الحياة بتعبير كازانوفا ومُنظّرو العَلمَنة، عصر عَلمانيّ بتعبير تايلور.

كُلّها تأويلات مُتعدّدة للواقعة نفسها: لقد حدث عالَم عَلمانيّ، لَم يعد فيه الإيمان بوجود بالله يبني فضاءنا السياسيّ ومجالنا العام. ليس لأنّ هذا الإيمان كما يُؤكّد غوشي قد اختفى كُلّيًا، وإنّما لأنّه صار بالنسبة لأغلبنا شأنًا شخصيًا وممارسة شعائرية مُؤقّتة.

قلق المحدودية

يُشكِّل الخُلود هاجس بشريّ، يُلاحقه في غياهب كينونته، سواء أكان واعيًا أم غير واعي، وتعود بنا الرواية الدينية لأحداث الخَلق، هُناك بعيدًا في السماوات قبل الخطيئة والإبعاد. لقد أغوى الشيطان آدم بإثنتين من صفات الألوهة الأكثر إغراءً، [فوَسوَس له الشيطان، قال يا آدمُ هل أدّلُكَ على شجرة الخُلد ومُلكٍ لا يبلى؟] طه:120، وفي هذه الآية اختصار لمَسعَى الإنسان في حياته الدُنيا، فيما يفني نفسه مُحاولًا تحقيقه، أن يكون أزليًا وخالدًا أوّلًا، وأن يمتلكَ مفاتيح كلّ شيءٍ ثانيًا، وهو لَن يمتلك مفاتيح كلِّ شَيء إلّا إذا صارَ مُطلَق [ القُدرة ] ومُطلَق [ المعرفة ]، وهكذا يصير الإنسان نحو تأليه نفسه.

لقد حاول الإنسان منذ القِدم البحث عن إكسير الحياة، لقد تعامل مع الشيخوخة كمَرَض، وافترَض أنّه بتغلُّبه على الشيخوخة، وبعالجه لأمراضِ إفنائه سيكون قادرًا على تخليد نفسه. أمّا لوك فيري، فيقول: إنّ الإنسان كائن ذو نهاية، مُحدّد في الزمان والمكان، إنّه فانٍ خِلافًا للإله، وخِلافًا للحيوانات فإنّه يعرف أنّه سيموت، وهذا الوضع مُقلِق بل عَبَثيّ ولا يُطاق. إنّ الإنسان يشعر بُعقدة فنائه في اللحظة التي يُدرِك فيها وجوده، هذا يعني أنّه الآن مُهدّد في لعبة مع الزمن وفي تجاور مع الموت، كي يحيى ما أمكنه قبل أن يُداهمه الموت من حيث يدري أو لا يدري.

لقد استُبدِلَ اللاهوت بعِلم النفس، وحَلّ كُرسي التحليل والعلاج النفسيّ، مكان كُرسي الاعتراف والتوبة الدينيّ. كان المَوت في الماضي أبطأ، كان يترك للإنسان الوقت الكافي للتصالح مع نفسه وغيره، وتسليم نفسه تحت تصرّف الله ومشيئته. أمّا لوك فيري فيُعقِّب على هذا: أمّا نحن فعلينا أن نعترف كملحدين أو لا أدريين أنّنا نُفضِّل بالطبع المَوت الفوري، دون ألم، ودون مجال للتفكير به.

لقد كان للحياة البشرية قداستها في الماضي، كانت تحتلّ مكانًا ساميًا لا يُمكن تعويضه، حتى الشيخوخة نفسها كان يُنظر إليها كمرادف لاكتمال الحكمة والوقار والاستقرار البشريّ. أمّا اليوم وعلى العكس من التعاليم التفليدية، فنحن في مجتمعاتنا المُعاصرة المُتجّهة نحو المُستقبل، والمشدودة بقُوّة فكرة التقدّم، فقد صرنا نخشى الشيخوخة، بوصفها مرحلة عُمرية مليئة بالآلام والمُعاناة، ولهذا أتينا اليوم إلى منح دلالة أخلاقية للقتل الرحيم، أو في تقرير خيار الانتحار، كمُحاولة لتنظيم الهُروب من وجود يُثقلنا بعُقَد فنائه. إنّ لا شيء في العالَم البشريّ دائم وثابت، فالعُنصر الوحيد الخالد هو “اللادوام” نفسه، أمّا مَن يُنكِر حقيقة لادوام الأشياء أو يتجاهلها فهو إنّما يُعرِّض نفسه لأشدّ الآلام، فإذا أطلقنا لذواتنا حُريّة التعلّق والهيام والتشبّث بما هو زائل، فإنّ أثر الفراق سيكون فظيعًا وموجعًا حتمًا.

إنّ الإنسان فانٍ خِلافًا للإله أو أنّه كما يقول الفلاسفة “كائن ذو نهاية”

إنّنا كائنات مُحدّدة في الزَمَان والمَكان، وخِلافًا للحيوانات فإنّه الكائن الوحيد الذي يدرك محدوديته

إنّه يعرف أنّه سيموت وكذلك أقرباؤه والذين يُحبُّهم

معرفتنا هذه جعلتنا في وَضع مُقلِق، قد صار الوجود عَبَثيًّا ولا يُطاق

– لوك فيري، تعلّم الحياة


عُقدة الفناء والتطبيع مع المَوت

إذا كان الدينُ عَزاءً للمؤمنين به، فإنّ المُعضلة تبقى قائمة بالنسبة لغير المُقتنعين به وبالنسبة لأولئك الذين تساورهم شكوك بالوعود الدينية، هذا ليسَ كَلام المؤمنين عن غير المُؤمنين، بل تقرير أهم فلاسفة الإلحاد اليَوم عَن أنفسهم، وأتحدّث بشكل أكثر خصوصية عن آلان دو بوتون، أندريه-كونت سبونفيل، لوك فيري، ميشيل أونفريه، ريتشارد دوكنز، هاريس ودينيت. وسأقتَبِس سريعًا، من لوك فيري:

لقد خَلَق غياب الدين فراغًا لا يُمكِن ملؤه بأيّة آيدولوجيا تعويضية، إلّا إذا كانت تملك نفس الفضائل اللاهوتية، هُنا تكمن نُقطة الضعف التي تواجهنا، فقد تلاشى بصعود العَلمَنة وبمساعدة الفردانية، أقول تلاشت القِيَم التي يُمكن أن نحسبها مَعنى للحياة، وصرنا نعيش في عالَم يستَنفِذ فيه أُفُق المُستَقبَل حقل الدلالات والقِيَم.

ولذا يحدُث أن يتمّ التحايل على الذات من خلال التفاف مفاهيميّ يُعيد تعريف المَوت. فيُمكن لنا أن نفهم أنّ الموت نفسه لا يتلخّص فقط بانتهاء الحياة، أو التوقّف بشكل مُفاجِئ عن الوجود. بل نُعيد تعريفه بإنكار وجوده، إذ ينصح حُكَماء اللادين وبعض الفلاسفة بعدم التفكير بالموت، لأنّه ليس هُناك إلّا إحدى اثنتين: إمّا أن أكون أنا حَيّ، وهذا يعني أنّ المَوت الآن غير موجود. وإمّا أن أكون أنا ميّت وهذا يعني انتفاء وجودي وبالتالي لن أتمكّن من القَلَق.

(كان ابن حزم أكثر دقة في تحديد هذه المُقاربة إذ في رسالة له بعنوان “رسالة في ألم الموت وإبطاله” يُميّز ابن حزم بين ألَم المَوت وماهية المَوت، فهو لا ينفي المَوت ولكن ينفي ألمه فيقول: إنّ كُلّ ما يُحَسّ عند المَوت من ألَم فإنّه إنّما ألم المَرَض الذي كان فيه، كالوجع المُختصّ بمكان واحد، وليس للنَفس بعد المَوت بقاء بحيث يصلُ إليها الألم الجسديّ أصلًا، لأنّها تكون قد فارقت الجسد)

أن لا نُفكِّر في الموت أو أن نتجاهله أو أن ننكره، أمر فيه نظر، إذ لو كان الأمر منوطًا بذواتنا فقط لكان الأمر مُمكنًا، لكن المَوت يتخطّف مَن حولنا، أحبابنا وأصدقاءنا، كما أنّ المَوت أعمّ من فقد الأحبّة، إذ كُلّ ما ينتمي إلى منظومة “ما لَن يعود أبدًا” (اللحظات العابرة، والأحداث التي تمضي، والفصول التي تنتهي، والأماكن التي نغادرها، والمشاعر التي تغادرنا..) كلّه مُدوّن في سِجلِّ المَوت ويُحسَب عليه.

وإذا كانت الأديان تصفُ نفسها بأنّها عقائد الخلاص بواسطة الإيمان والتسليم لله، فإنّ فيري يدّعي أنّنا قد نستطيع وصف كُبريات الفلسفات بأنّها عقائد الخَلاص بواسطة الذات ودون عون من الله، بواسطة قوانا الذاتية وبنعمة العقل وحَدَه. إنّ فيري يُقارب الفلسفة من خلال تحديد مكانها بالنسبة للمشروع الدينيّ. ويرجع بنا إلى أبيكتات  أحد كبار مُمثّلي الفلسفة الرواقية في اليونان القديمة، الذي ذهب إلى حدّ إرجاع كلّ التساؤلات الفلسفية إلى المصدر الوحيد نفسه: الخوف من الموت. وكان أبيقور  يَصِف الفلسفة بأنّها طبابة النفس التي تهدف في نهاية المَطَاف إلى إفهامنا بأنّه يجب ألّا نخشى المَوت. ولمونتاني الفيلسوف الفرنسيّ حكمته الشهيرة في ذات الموضوع: التفلسف هو تَعلُّم المَوت.

إنّ لوك فيري يختزل الفلسفة بتحديد مكانها من المشروع الدينيّ، إذ مُراد الفلسفة عنده وغايتها القصوى، أن نُخلِّص أنفسنا بأنفسنا، بواسطة قوانا الذاتية وعبر الدروب التي يرسمها العقل، دون أن نستمدّ هذا الخَلَاص من كائن آخر مُفارِق أو مُتعالي أو مُتفوِّق، بل مِن ذواتنا نحن، بشكل مُحايِث. إنّ الفلسفة ليست سوى نزوعنا البشريّ لتألّهنا، لأنّ نصير آلهة مُستغنية، ومُكتفية، نستمدّ وجودنا من ذواتنا.

يمنعنا الخَوف من المَوت من العيش بهناء، ليس لأنّه يُولّد لدينا قلقَ مَجيئِه إلينا، فنحن قد ننشغل بالحياة اليومية وتمرّ أيام طِوال دون أن نُفكِّر فيه. ولكنّه يمنعُنا من العيش بهناء لأنّه يظهر في حياتنا اليومية بتمظهرات غير مُباشرة، ففكرة اللاعودة إلى الوراء، واستحالة الرجوع للماضي وما يمضي، هي شكل من أشكال الموَت الحاضر في قلب الحياة، إنّه يُنغِّص حياتنا بتذكيرنا إلى أنّ كُل ما يمضي ويفنى، كان موجودًا في لحظة ما، ففي الماضي تسكن مُنغِّصات السعادة كالحنين والشعور بالذنب وكلّ ما نأسف له أو نندم عليه. فحتّى اللحظات السعيدة حينما تَعبُر تتحوّل إلى جِنان مفقودة، تجذبنا لا شعوريًا نحو ماضٍ نتحسّر عليه، حسرة تمنعنا من الاستمتاع بالوقت الحاضر.

كيف يُمكننا التقدّم إلى الأمام بوثوق إذا كان كلّ ما نُبصره من أمامنا ضباب متراكم بعضه فوق بعض! كيف بنا إذا لم يكن باستطاعتنا التوقّف عن الالتفات للخلف! هكذا تمامًا يُلقي كلّ من المُستقبل والماضي بثقلهما على الحياة الإنسانية، وهكذا تتولّد مخاوفنا ووساوسنا التي تُنغِّص البُعد الوحيد الذي بين أيدينا، اللحظة الحاضرة، إذ لَم يَعُد الماضي موجودًا، والمُستقبَل لم يُوجَد بعد. وهكذا نعيش مُتأرجحين بين الحنين والتوقّع، الحنين لما مضى، وتوقّع ما سيأتي، وجود مُتأرجح ين الأسى والأمل. (لا خوفٌ عليهم ولا هم يَحزنون)

إنّنا نتجاوز هذا القلق من الفناء بحسب باومان، من خلال التطبيع مع المَوت، ويتمّ هذا التطبيع من خلال تحويل كلّ خبرات الحياة لخبرات قصيرة الأجل، قابلة للانتهاء والفناء، بحيث يعيش الإنسان كلّ لحظة بلحظتها وكل تجربة بذاتها بشكل مُستقلّ ومنفصل، من هُنا تشيع عبارات من مثل YOLO: You only live once أو عبارات مثل شعار Nike الذي يقول Just Do It ، فليسَ عليكَ التفكير في الأبعاد الأخلاقية والقِيمَية لأي فعل ترغبه، هذا بالأساس ما ستقوم عليه لاحقًا فلسفة الـ VISA Card إذ التفكير في عواقب استهلاكك هو أمر لاحق ليس عليكَ أن تقلق بشأنه الآن، الآن ستحلّ لكَ البطاقة المشكلة، وستفعل ما تُحبّ، وهذا المُهِم.

هكذا تختفي الملحميات الكُبرى، لصالح قصص فردية تتأسّس على متتاليةمن البدايات والنهايات. فكُلّ ما يجب أن تهتمّ لأجله، هو ما يجري الآن فحسب the present، فإذا كان المُستقبل ضبابي، فلا داعي لأن تشغل بالك بالتفكير به، فلا تشغل بالك بعبور الجِسر قبل أن تصلَ إليه، فقد لا تقترب منه أبدًا، أو قد ينهار الجِسر، أو قد يتمّ نقله لمكان آخر قبل أن تصله. وإذا كان الماضي مُرهِق فلا داعي لأنّ تحُمّل نفسك عبءَ ما مضى. استمتع بيومك، انعم باللحظة الحالية، استمتع الآن وادفع فيما بعد، وستعينك بطاقة الإئتمان على ذلك.